الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر وقعة جرت: المنزل الثامن: ولما كان ظهر اليوم المذكور رأى السلطان الرحيل والتقدم إلى قدام العدو فدق الكؤوس ورحل الناس ودخل في شعرا أرسوف حتى توسطها إلى تل عند قرية تسمى دير الراهب فنزل هناك ودهم الناس الليل فتقطعوا في الشعر وأصبح مقيماً ينتظر بقية العساكر إلى صباح الأربعاء الحادي عشر وتلاحقت العساكر وركب يرتاد موضعاً يصلح للقتال ولقاء العدو وأقام ذلك اليوم أجمع هناك. ومن أخبار العدو في تلك المنزلة أنه أقام على نهر القصب ذلك اليوم أيضاً وأنه لحقته نجدة من عكا في ثمان بطس كبار واليزك الإسلامي حوله يواصلون الأخبار المستجدة بهم وجرى بين اليزك وبين حشاشة العدو قتال وجرح من الطائفتين. .ذكر مراسلة جرت في ذلك اليوم: .ذكر اجتماع الملك العادل والأنكتار: .ذكر وقعة أرمون وهي أنكت في قلوب المسلمين: المنزل التاسع: وسرت بعد صلاة الظهر حتى أتيت الثقل وقد نزل قاطع النهر المعروف بالعوجاء في منزلة خضراء طيبة على جانب النهر، ووصل السلطان إلى المنزلة أواخر النهار، وازدحم الناس على القنطرة، فنزل على تل مشرف على النهر ولم يعد إلى الخيمة، وأمر الجاويش أن ينادي في العسكر بالعبور إليه، وكان في قلبه من الوقعة أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والناس بين جريح الجسد وجريح القلب، وأقام السلطان إلى سحر الخامس عشر ودقّ الكؤوس وركب، وركب الناس، وسار راجعاً إلى جهة العدو حتى وصل إلى قريب أرسوف وصفّ الأطلاب للقتال رجاء خروج العدو ومسيره حتى يصاف، فلم يرحل العدو في ذلك اليوم لما نالهم من التعب والجراح، وأقام قبالتهم إلى آخر النهار وعاد إلى منزلته التي بات فيها. ولما كانت صبيحة السادس عشر دقّ الكؤوس وركب، وركب الناس، وسار نحوهم، ووصل خبر العدو أنه قد رحل طلباً جهة يافا، فقاربهم مقاربة عظيمة، ورتب الأطلاب ترتيب القتال، وأخرج الجاليش، وأحدق العسكر الإسلامي بالقوم وألقوا عليهم من النشاب ما كان يسد الأفق، وقاتلت قلوبهم قتال الحنق، وقصد رحمه الله تحريك عزائمهم على الحملة، حتى إذا حملوا ألقى الناس عليهم وقصدوهم، ويعطي الله النصر لمن يشاء، فلم يحملوا وحفظوا نفوسهم وساروا مصطفين على عادتهم حتى أتوا نهر العوجاء، وهو النهر الذي منزلتنا أعلاه، فنزل في أسفله، وعبر بعضهم إلى غربي النهر، وأقام الباقون من الجانب الشرقي، فلما علم الناس بنزولهم تراجع الناس عنهم، وعاد السلطان إلى الثقل ونزل في خيمته وأطعم الطعام، وأتى بأربعة من الإفرنج قد أخذتهم العرب ومعهم امرأة فرفعوا إلى الزردخانات، وأقام بقية ذلك اليوم يكتب الكتب إلى الأطراف باستحضار بقية العساكر، وحضر من أخبر أنه قتل من العدو يوم أرسوف خيول كثيرة وأنه تتبعها العرب وعدّوها فزادت على مائة، وأمر السلطان أن رحلت الجمال وتقدمت إلى الرملة، وبات هو بتلك المنزلة. المنزل العاشر: ولما كان سابع عشر صلّى الصبح ورحل، ورحل معه الثقل الصغير، وسار يريد الرملة، وأتى باثنين من الإفرنج فضرب أعناقهم، ووصل من اليزك من أخبر أن العدو رحل من يافا، وسار السلطان إلى أن أتى الرملة، وأتى باثنين من الإفرنج أيضاً فسألهم عن أحوالهم، فذكروا أنهم ربما أقاموا بيافا أيّاماً وفي أنفسهم عمارتها وشحنها بالرجال والعدد، فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وأنها هل تخرب أو تبقى، واتفق الرأي على أن يتخلف الملك العادل ومعه طائفة من العسكر مقارب العدو ليعرف أحوالهم واتصالها وأن يسير هو ويخرب عسقلان خشية أن يستولي عليها الإفرنج وهي عامرة فيقتلوا من بها من المسلمين ويأخذوا بها القدس الشريف ويقطعوا بها طريق مصر، وخشي السلطان من ذلك، وعلم عجز المسلمين عن حفظها لقرب عهدهم من عكا وما جرى على من كان مقيماً بها ويخيفوا الناس عن الدخول إلى عسقلان، فادخرت القوة في عسكر الإسلام لحفظ القدس المحروس فتعين لذلك خراب عسقلان، فسار الثقل والجمال من أوّل الليل، وتقدم إلى ولده الملك الأفضل أن سار عقيب الثقل نصف الليل، وسار هو وأنا في خدمته سحر الأربعاء. المنزل الحادي عشر: وهو على عسقلان. ولما كان يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر وصل السلطان إلى يبنا، فنزل بها ضحى، وأخذ الناس راحة، ثم رحل وسار حتى أتى أرض عسقلان، وقد ضربت خيمته بعيدا منها، فبات هناك مهموماً بسبب الخراب، وما نام إلاّ قليلا. ولقد دعاني في خدمت سحرا، وكنت فارقت خدمته بعد مضي نصف الليل، فحضرت وبدأ الحديث في معنى خرابها، وأحضر ولده الملك الفضل وشاوره في ذلك، وطال الحديث في المعنى. ولقد قال لي: والله لأن أفقد أولادي بأسرهم أحب إليّ من أن أهدم منها حجراً واحداً، ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان، ثم استخار الله تعالى، فأوقع الله في نفسه أن المصلحة في خرابها لعجز المسلمين عن حفظها، فاستحضر الوالي قيصر بها وهو من كبار مماليكه وذوي الآراء منهم، فأمره بجمع العمال فيها، ولقد رأيته وقد اجتاز بالسوق والوطاق بنفسه مستقر الناس للخراب، وقسم السور على الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من الناس العسكر بدونه معلومة وبرجا معلوما يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع الضجيج والبكاء، وكان بلداً نضراً خفيفاً على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا في سكناه، فلحق الناس عليه حزن عظيم، وعظم عويل أهله على مفارقة أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يمكن حمله، فبيع ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد، واختبط البلد، وخرج أهله إلى العسكر بذراريهم ونسائهم خشية أن يهجم الإفرنج، وبذلوا في الكراء أضعاف ما يساوي قوم إلى مصر وقوم إلى الشام وقوم يمشون إذا لم يقع لهم كراء، وجرت أمور عظيمة وفتنة هائلة لعلها لم تختص بالذين ظلموا، وكان هو بنفسه وولده الملك الأفضل يستعملان الناس في الخراب والحث عليه خشية أن يسمع العدو فيحضر ولا يمكن خرابها، وبات الناس في الخيام على أتم حال من التعب والنصب، وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح، وأنه خرج إليه ابن الهنغري وتحدث معه وأنه طلب جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما رأى في أنفس الناس من الضجر والسآمة من القتال والمصابرة وكثرة ما علاهم من الديون، وكتب إليه يسمح في الحديث في ذلك وفوّض أمر ذلك إلى رأيه، وأصبح في العشرين على الإصرار على الخراب واستعمال الناس فيه، وحثهم عليه، وأباحهم الهري الذي كان ذخيرة في البلد للعجز عن نقله وضيق الوقت والخوف من هجوم الإفرنج، وأمر بحرق البلد، فأضرمت النار في بيوته ودوره، ورفض أهله بواقي الأقمشة للعجز عن نقلها، والأخبار تتواتر من جانب العدو بعمارة يافا، وكتب الملك العادل يخبر أن القوم لم يعلموا بخراب البلد وأن سوّف القوم وطوّل الحديث لعلّنا نتمكن من الخراب، وأمر بحشو أبراج البلد بالأحطاب وأن تحرق، وأصبح الحادي والعشرون فركب يحث الناس، ودام يستعملهم على التخريب ويطوف عليهم بنفسه حتى التاث مزاجه التياثاً قويّاً امتنع بسببه من الركوب والغذاء يومين، وأخبار العدو تتواصل إليه في كل وقت ويجري بينهم وبين اليزك والعسكر وقعات وهو يواظب على الحث على الخراب، ونقل الثقل إلى قريب البلد ليعاونوا الغلمان والحمالين وغيرهم من ذلك، فخرب من السور معظمه، وكان عظيم البناء بحيث أنه كان عرضه في مواضع تسعة أذرع وفي مواضع عشرة أذرع، وذكر بعض الحجارين للسلطان وأنا حاضر أن عرض السور الذي ينقبون فيه مقدار رمح، ولم يزل التخريب والحريق يعمل في البلد وأسواره إلى سلخ شعبان، وعند ذلك وصل من جرديك كتاب يذكر فيه أن القوم يتفسحون وصاروا يخرجون من يافا يغيرون على البلاد القريبة منها، فتحرك السلطان لعله يبلغ منهم غرضاً في غرّتهم، فعزم على الرحيل على أن يخلف في عسقلان حجارين ومعهم خيل تحميهم ويستنهضونهم في الخراب، ثم رأى أن يتأخر بحيث يحرق البرج المعروف بالأسبتار، وكان برجاً عظيماً مشرفاً على البحر كالقلعة المنيعة، ولقد دخلته وطفته فرأيت بناءه أحكم بناه، يقرب من أن لا تعمل فيه المعاول، وإنما أراد أن يحرقه حتى يبقى بالحريق قابلا للخراب ويعمل الهدم فيه. وأصبح مستهل رمضان فأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. ولقد رأيته يحمل الخشب ويحشونه في البرج حتى امتلأ، ثم أطلقت فيه النار فاشتعل الخشب، وبقيت النار تشتعل فيه يومين بلياليهما، ولم يركب السلطان في ذلك اليوم تسكينا لمزاجه، وعرض لي أيضاً تشوش مزاج اقتضى انقطاعي عنه في ذلك اليوم، ولقد تردد إلى من سأل عن مزاجي من عنده ثلاث مرات مع اشتغال قلبه بذلك المهم. فالله تعالى يرحمه، لقد ماتت محاسن الأخلاق بموته. تشوش مزاج اقتضى انقطاعي عنه في ذلك اليوم، ولقد تردد إلى من سأل عن مزاجي من عنده ثلاث مرات مع اشتغال قلبه بذلك المهم. فالله تعالى يرحمه، لقد ماتت محاسن الأخلاق بموته.
|